أحياناً يسمح الله بحدوث بعض الأشياء لتنسيك بعض المشاعر المؤلمة ولو لوقتٍ قصير… هذا ما حدث في الطائرة المتجهة من العاصمة أبوظبي إلى تورنتو!
في البداية، حاولنا وبشتى الطرق أن نحصل على مقاعد في درجة رجال الأعمال أو مقاعد قريبة من المخرج، لكن بدا لي أنَّ لا شيء كان متوفراً فالرحلة مليئة بالركاب!
ودّعنا العائلة والأصدقاء بقلب أثقله الألم وغصّة الوداع. شعرتُ أنّ ثقلاً رهيبًا كان مربوطًا على قدميّ، وكل شيء فيَّ كان يرفض الاتجاه نحو البوابة رقم 32.
ونحن نقترب من تلك البوابة، رأينا جموعًا غفيرة، أعدادًا تتسع لطائرتين على الأقل! تساءلنا إن كُنّا ننظر إلى البوابة الخاطئة، لكنها كانت البوابة المنشودة… 32!
جلسنا في زاوية نراقب المسافرين، وأول شيء خَطرَ في بالي هو كمية الأوكسجين التي يجب أن يتم ضخّها في الطائرة لتكفي هذه الجماهير، وبالتالي كمية الفيروسات التي سنتشاركها شئنا أم أبينا!!
دخل جميع الركاب ولا زلنا أنا وأمي جالستين في تلك الزاوية نفكر برهبة الخطوة التالية، الذهاب إلى المجهول.. وهنا أعني المقعدين رقم 27 دال وياء! أحسستُ وكأنني أحضّر جميع أسلحتي الافتراضية وأجبر جسدي على الوصول إلى حالة التأهب القصوى، فاليوم حربنا الافتراضية هي مع 380 مسافر! هي حرب الوجود ومقاومة الفيروسات وصراخ الأطفال الذي لا ينقطع. أما أمي فكانت تصلّي وتهزّ رأسها مستغربة، ما الذي جعل كل هذه الناس تختار السفر إلى هذه البلد الباردة في يوم ليس له أهمية أبدًا؟! يومٌ لن يذكره التاريخ لأنه أصلاً يومٌ مكروه في الأسبوع؟! هو يومٌ غير محدد الاتجاه، حيث أنه ليس قريبًا من عطلة نهاية الأسبوع وليس بعيدًا عنها، هو الثلاثاء الحيادي!
دخلنا بعد أن قال لنا الموظف بأننا فعلاً آخر الركاب، وطبعًا للتأكيد سألته عن مقاعد درجة رجال الأعمال وإمكانية وجود كرسي خالي، ورده كان، دون أن ينظر إليّ طبعًا، “الطائرة ممتلئة حتى آخر كرسي!” كان وقع كلماته غير الآبهة بمشاعرنا قويًا علينا، لدرجة أننا مشينا ونحن ننظر إلى بعضنا وكأن عيوننا تحبك مؤامرة الهروب… لكن الطائرة أمامنا والموظف المنزعج خلفنا والخيار الوحيد هو المضي قدمًا نحو قدرنا… المقعدين 27 دال وياء!
وصلنا إلى مقاعدنا، ومن كثرة الناس لم ننظر إلى من يجاورنا بالمكان، كان همّنا وهمّ المضيفة المتأمرة هو إيجاد مكان لحقائب السفر الصغيرة التي أبقيناها معنا! وبعد جِدال، تَقرّرَ أخذ حقيبتي إلى مخزن المضيفين والإبقاء على حقيبة أمي. هنا فقط نظرنا إلى جيراننا في المقعد، وهنا فقط علمت أن إحدانا ستكون مصيرها نصف مقعد! جلس بجانبنا رجل وزوجته، والاثنان كانا من الأحجام الكبيرة طولاً ووزنًا! أنا متأكدة أن وجهي قد حمل ملامح غريبة، حتى أن أمي قررت بسرعة الجلوس في المقعد المجاور للسيدة وإعطائي الآخر. أما أنا فجلستُ صامتةً بمعالم متجمدة! أنا لست متحيزة أو عنصرية، لكن في رحلة الأربع عشرة ساعة، ما الذي تتمناه غير أن يكون المقعد المجاور لك خالٍ تمامًا، وليس مليئًا تمامًا؟
ما علينا.. بدأت الرحلة، ولم تمضِ خمسُ دقائق وإذا بالسيدة تضيع في نوم عميق. أتتساءلون كيف عرفتُ أنه عميق؟ سمعتُ أن الإنسان الذي يشخر يكون في أغلب الأحيان في سابع نومة وفهمكم كفاية! على سيرة الرقم سبعة، أتساءل ما هي قصتنا مع الأرقام؟ هل يا ترى يوجد محور سابع للنوم؟ وستين داهية ومية ألف مرحبا!! على كل الأحوال، فلنعد إلى رحلتنا الطويلة.
كانت مقاعدنا جيدة جداً، لأننا في نهاية القسم، هذا يعني أنه لا يوجد من يجلس خلفنا، وبإمكاننا تحريك المقعد للخلف دون أن نزعج أحد، بالإضافة إلى تواجدنا بجانب الخدمات الصحيّة. لكن من ناحية أخرى، تسربت لنا رائحة الطعام الشهية، ودون أن نعلم نسينا أن نأكل قبل الرحلة. كُنّا نرى المضيف وهو يقدم الطعام للمسافرين، وانتابنا شعورًا وكأنه يأخذ دهراً للوصول إلينا! فجأةً، تحولت معدتي إلى عدو مزعج يتحرك في جميع الاتجاهات مطالبة بما أشمّه، وكيف لك أن تقنع معدتك أنّ هناك دور وعلينا الانتظار؟!
نظرت إلى السيدة التي تجلس بجانب أمي، وإذ بها مستيقظة وتأكل أيضًا! قلت لأمي: “متى حصل هذا؟!” فأجابت: “يبدو أنهم يعتبرونها من المتقدمين في العمر، وبالتالي تُقدَم لهم الوجبة قبل الآخرين…” ليست مشكلة كبيرة، فهذا على الأقل سيوقف الشخير!
فجأة وبينما نحن ننتظر طعامنا، ونسمع المضيف يقول: “لم يتبقَّ لدينا من هذا الصنف!”، أحسسنا ببرد شديد فجائي، فلم نكن قد وصلنا إلى كندا الباردة بعد! لا نزال في المنطقة الدافئة. لكن كعادة شركة الطيران هذه، يغيرون درجات حرارة المكان بطريقة جنونية، وأعتقد أن السبب هو الروائح الكريهة التي بدأت تندمج مع رائحة الطعام لتشكل مزيجًا لا أرغب بوصفه!
إذاً نحن الآن جائعتان، وعلينا قبول الوجبة التي تبقّت، وأن نتجمد من البرد. بالإضافة إلى شيء جديد حدث، فيبدو أن جارتنا العزيزة قد انتهت من وجبتها وبسرعة البرق عادت للنوم، وقررت هذه المرة أن تأخذ راحتها وتضع كوع يدها في خاصرة أمي ليكتمل المشهد الدرامي!
جاء الطعام، وقبل أن نأكل، تبادلنا الأماكن أنا وأمي، إذ علينا من الآن وصاعداً مشاركة كل شيء في الحياة، وهذه أول تجربة! استمتعنا بوجبتنا وقررنا أن نشاهد مجموعة أفلام قصيرة سويًّا، ثم تشاركنا الكتاب الذي أخذته معي، والذي أهداني إياه صديق عزيز قائلاً: “هذه الرواية للطائرة!” كنت أرى وجه المضيف يضحك كلما مرَّ من جانبنا ونحن نضع وجوهنا في الكتاب! لكن قل لي، ما الذي كنت ستفعله لتقتل كل هذا الوقت، علمًا بأن النوم قد هرب منا وذهب إلى جارتنا التي لم تكن تستيقظ إلا لتأكل؟!
سأكون منصفة قليلاً مع تلك السيدة، فلم يكن الموضوع سيئًا لتلك الدرجة. فهي عندما قرر مدير المضيفين خفض الحرارة، كانت هي مصدر الدفئ لي! حيث كان يصدر من ذراعها المتزاحمة مع ذراعي حرارةً قوية دفأتني لفترة وجيزة، لذا سأسامحها على باقي الأمور!
وأخيرًا، استطعت النوم قليلاً، وأحسست أني غبت للحظة وعدتُ إلى منزلنا في أبوظبي. لا أنكر أنني عندما استيقظتُ إثرَ نعرةٍ من جارتي، كانت عيناي مليئتين بالدموع. ليست الإمارات بلدي، فأنا سوريّة، لكنني كبرتُ فيها ولي فيها ذكريات أكثر من بلدي الأصلي، لذا فقد كان فراقها أصعب عليّ من فراق الشام! هناك تركت ذكريات طفولتي، وفي أبوظبي تركت ذكريات حياتي والذين أحبهم، والآن عليّ أن أتصارع مع ذكريات الشام وذكريات أبوظبي!
استيقظتُ لأجد أمي مستيقظة أيضًا، فيبدو أن النوم قد غاب عنها تمامًا. قررنا أن نُشاهد فيلمًا آخر ونشرب القهوة، ونتحدث ونأخذ صورًا مضحكة لنرسلها فيما بعد إلى العائلة.
رحلة الأربع عشرة ساعة كانت طويلة، لكن الشيء الوحيد الذي لن ننساه هو غيظنا من جارتنا وزوجها، اللذان ناما إحدى وعشرة ساعة! أما نحن، فقد وصلنا إلى كندا بعيون ذائبة حمراء، وخصر مليء بالنعرات من جارتنا النائمة، والتطلع نحو المجهول، والكثير من الحنين.
Comments