عيناها هائمتان في المكان الذي امتلئ بالحجارة والأتربة، تضع يدها على كل حجر وكل قطعة قماش وتقلبها في بحث جاد.
ليس هنا .. ولا هنا .. تفكر وهي تتابع بحثها.
هذا هو اليوم الثلاثين الذي تقضيه في البحث، قالوا لها أنه قد يكون في هذه المنطقة وهي قد نبشت نصف الأماكن تقريبًا ولم تجد شيء!
منهكة هي، توترها يؤلمها أكثر من المشي والبحث اليومي لساعات وساعات. تفكر، هل هو هنا فعلًا أم أنهم كذبوا عليها من جديد؟
أصبحت يداها خشنة ومتعبة، هزل جسدها ولم تعد تفكر بالطعام أو الشراب وقد يمر النهار بأكمله دون أن تأكل أكثر من وجبة واحدة! لم يعد الجوع يؤلمها فعليها أن تجده.
ماذا لو كانوا يكذبون؟ ماذا لو أنه ليس في هذه المنطقة أيضًا؟ هي تعلم أن الجميع يظنون بأنها فقدت عقلها، فمظهرها الخارجي لا يدل على إنسانة طبيعية. كانت ثيابها رثة بعض الشيء، بشرتها متعبة ومهملة، شعرها مصفف بطريقة لا مبالية ووجهها شاحب ومتسخ قليلًا أو هذا ما يظهر عليه. تمشي بطريقة متعبة منحنية وكأنها تحمل ثقلًا غير مرأي على ظهرها وهمًا كبيرًا في قلبها!
يبدأ النهار بالقليل من الطعام، ترفع الصلوات لله لعله يوفقها ويصبّرها ويعطيها القوة. تبدأ مسيرتها اليومية، لقد تركت علامة قرب المكان الأخير الذي بحثت فيه الليلة الماضية. اتجهت في طريقها إليه متأملة أن تكون العلامة هناك، وأن لا يكن أحد قد حركها أو لعبت بها قطط الشوارع! لكن لِمَ كلُّ هذا الخوف… من سيمر من هنا أصلًا! فكرت وهي تقترب نحو العلامة. نظرت إلى السماء وكأنها تطلب الصبر، أخذت نفسًا عميقًا وبدأت بحثها.
هذا المكان يحتوي على الكثير من الفرش المتبعثر، لكن يبدو أن أحدهم قام بترتيبها بطريقة معينة! هل هو من رتبها؟ فكرت وهي تبحث بسرعة في أرجاء المكان. بدأ التوتر يزيد وبدأت تتحرك أسرع وبطريقة هائجة وكأنها أصيبت بنوبة أو أنها فقدت عقلها فجأة!
شيء ما يختبئ هنا.. تحركت نحو الزاوية التي تغطيها فرشة مقلوبة وهي متأكدة بأنها سمعت صوتًا ما، تنفس أحدهم! نعم حتى النفس أصبحت قادرة على سماعه!
هناك يختبئ مرتجفًا، يبدوا نحيلًا متسخًا متعبًا، يلبس ثيابًا مهترئة غامقة اللون ويحمل شيئًا بيده، أداةً ما!
نظرت جيدًا وهي تقترب بحذر قائلة: لا تخف … لا تخف. في تلك اللحظة لم يكن واضحًا من يخاف مِن مَن!
شكلُ هذا الصبي غريب عنّا… هو لا يشبه أبناء منطقتنا كثيرًا، وكأنه أتى من منطقة بعيدة! فكرت
ينظر نحو الصوت بعدائية وقد عصره الألم، يسمع صوت امرأة مقتربة نحوه. يحاول أن يصطنع القوة والغضب ليفزعها.
من هناك…. قال ثم تذكر بأن كلامه سيفضح هويته فصمت.
ما هذه اللهجة التي يتحدث بها هذا الصبي! فكرت وهي تقترب أكثر برويّة محاولًة تهدئته. تلك الأداة التي يحمل بيده هي بندقيته المكسورة! لِمَ يهددني ببندقيةٍ مكسورة! ولِمَ لا ينظر نحوي مباشرة! وجهه مغطى بالدم القديم والتراب… هل ياترى سقط عليه المنزل؟ هل تراه هاربٌ من مكانٍ ما!
اهدأ… لا تخف .. لا تخف
بحركة سريعة باتجاه اليمين واليسار تحرك وهو يحاول إخافة الصوت، يحاول تصويب بندقيته لكنه يفكر وكأن شيئًا ينقصها! ما بالها بندقيتي!
لا تقتربي .. لا تقتربي .. سأطلق عليكِ النار!
قال هذا وانهار على الأرض هامدًا…
لم يكن هذا الذي أتت من أجله، لكن هذا الصبي المسكين يبدو وكأنه لا يراني! ليس أعمى منذ الولادة فتصرفاته تدلّ على أنه فقد بصره مؤخرًا، حركته ضائعة ومضطربة وتحمل الكثير من الخوف! ماذا أفعل به الآن! فأنا لا أقوى على حمله، لكن كيف وصل إلى هنا!
بعد صراعٍ مع نفسها، قررت أن تحمله وتجره، وتحمله وتجره! ما هذه المصيبة التي أوقعتُ نفسي بها!!
وتجره وتحمله .. وتجره وتحمله حتى وصلت إلى المنزل.
حضّرت الماء الساخن وبعض الطعام وجلست تراقبه، هذا الصبي ليس من هذه البلاد، فكرت. ياترى هل هناك إمرأة مثلي تبحث عنه في مكانٍ ما؟ بشرته تبدو سمراء، كلامه غريب عنّا. ما الذي جاء به إلى هذه البلاد… وفي هذه الأوقات!! هذا ما دار في عقلها وهي تراقبه بينما ينام بهدوء.
انتفض من نومه العميق وكأن حيّةً لسعتهُ، تخبّط من حوله بحثًا عن بندقيته المكسورة! علمَ بأنه بمكان جديد، هذا المكان دافئٌ ويوجد غطاء على جسده المرهق. كان يعلم جيدًا بأن أية مقاومة لن تكون لصالحه في النهاية هو لا يعلم ولن يعلم أين هو إن لم يخبره أحد بمكانه.
أعلمته بوجودها قريبةً منه، وقالت بأنها ستغسل له رأسه ووجهه بالماء الساخن بعد أن يأكل بعض الطعام. هدأ قليلًا فلم تعد المقاومة ضرورية، هو ليس في أرض المعركة!!
بدأت بصبِّ الماء على رأسه بهدوء، راقبت الماء النازل من رأسه والمتسخ بالتراب والدماء القديمة. هناك آثار جروح مبعثرة في رأسه وكأنه تعرّض لشظايا بعيدة كفاية حتى لا تتسبب بقتله لكنه بالتأكيد أصيب بشيء أفقده بصره! كان يتألم من آثار الجروح لكنه لم ينبس بكلمة.
بدأت بتنظيف وجهه مستعينة بقطعة اسفنجة ناعمة لتفرك التراب الملتصق على وجهه مع الدماء المتخثرة. نظفت جبينه، ثمَّ وجنتيه وحول فمه. ما هذه الجروح المؤلمة! فكرت وهي تمسح رقبته ثم انتقلت إلى عينيه.
نظرت إليه بتمعّن وإلى عينيه التائهتين ودموعها منهمرةً على وجهها! يا ترى هل تغسل وجهه أمٌّ حنونة مثلي؟ هل تغسل عينيه وجبينه كما أفعل أنا لهذا الصبي البائس؟ نفضت رأسها من تلك الأفكار وهي تحاول النظر من خلال دموعها. لا أريد أن أفكر بالأسوأ، لا أريد أن أتخيله بوضعٍ مثل هذا.. لا أريد! فكرت وهي تمسح عيني الصبي بأصابع يدها المرتجفة وتشعر بحرارة دموعه المنهمرة.
هل هي ملاكٌ أرسلها الله لي؟ ولِمَ يرسلها لي بعد كلِّ ما حصل!! هل يعط الله فرصة ثانية لأناسٍ مثلي لا يستحقونها! ثمَّ ما بالها تبكي، أستطيع أن أشعر بأنفاسها وتنهيدات قلبها. من هي هذه المرأة؟ يا ليتها كانت أمي! فكر وهو يذرف الدموع تحت المياه عالمًا بأنه بعيدٌ جدًا عن بلاده!
كانت تعلم بأن سؤالها له لن يفيد لكنها ستسأله على كل حال، هي لم توفر أحدًا إلا وسألته، فلم لا تسأل هذا البائس؟ قد يعلم بمكانه، أو بأي شيء عنه!
أنت ياسيدتي تبحثين عن ابنكِ المخطوف، وأنا أبحثُ عن طريقةٍ للعودة إلى بلدي، لقد خطفت الكثير وقتلت الكثير لكنني لم أرى بينهم أحدًا يشبه صفات ابنكِ، عندما كنتُ أرى. قال هذا وأجهش في البكاء وهو يفكر أنه قد رأى أحدًا بهذه الصفات من قبل، أحدًا كان ينظرُ إلى وجهه قبل أن يجهز عليه!!
أما سبب قدومي إلى هنا وتركي لأهلي وأمي الباكية كان لأتبع أحدهم. تابع كلامه محاولا التوقف عن البكاء. لقد وعدني بالكثير من المال والجنة والغنائم والحياة الرغيدة وغيرها. هنا لم أجد ما وعدوني به، حاربت لسبب أجهله ورأيت أفظع المشاهد التي لن أنساها بحياتي. أرتفع صوت بكائه وكأنه طفلٌ ضائعٌ، بكى بُكاءً مرًا وهي لا تزال تراقبه متجمدة، لم تكن تعلم هل كان كلامه مطمئنًا بعض الشئ أم مقززًا!
أريد العودة لمنزلي ومدرستي وأمي… أريد أن أخبرها بأنني حي، وأنني نادمٌ على هربي! كم كنت جبانًا وعاقًا يوم هربت من المنزل دون علمها، أريد أن أعيش.. أريد أن أعود. قال هذا وتابع بكائه.
ظلّت تنظر نحوه ولا تراه، تهزُّ رأسها جيئة وذهابًا والدموع قد غطت وجهها وقلبها!
على الأقل لا يزال حيًّا. فكرت وهي تتأمل وجه الصبي البائس الأعمى، والذي يحمل جروحًا في كلِّ مكانٍ في جسده الضعيف وروحه المتعذبة.
هناك، في مكانٍ ما يوجدُ أمٌ تستيقظ كلَّ صباح وتبقى حتى المساء تبحث عن ابنها المفقود بقلبٍ دامٍ كلَّ يوم … كلَّ يوم .. كلَّ يوم!
Comments