top of page

مكتبة

لم يستطع أن يجد ثقب المفتاح في باب منزله، هل هو البرد القارص الذي يسبب له الإرتجاف أم الدمع الذي حاول أن يخبئه في عينيه المتعبتين. وضع حقيبته الشبه فارغه على الأرض وأمسك بالمفتاح بكلتا يديه وثبته بعد أن أخطأ مرتين أو ثلاثة، فتح الباب ودخل أخيرًا إلى شقته ليرمي بجسده المرتجف على أريكته الوحيدة مثله. أغمض عينيه، وسقطت تلك الدموع التي حاول كبتها منذ أن ترك المبنى رقم 155. 

لم تكن الشقة باردة والتدفئة تعمل جيدًا، لكنه يرتجف بقوة. حاول النهوض من الأريكة متجهًا نحو سريره بظهر منحنٍ، ألقى بنفسه على السرير وسحب الغطاء حتى غمر به رأسه وبكى، قبل أن يغطَّ في نوم عميق.

“لِمَ يطلبني اليوم؟”

“لستُ أعلم، لكنّهُ طلب أن أخبركَ حال وصولك” 

“هل أعلمكِ بالسبب؟”

“كلا… أنتَ تعلم كيف هو، لا أحد يعرف مالذي يدور في ذهنه!”

“حسنًا حسنًا… سأجلب تقرير العمل في حال أراد الإطلاع عليه.”

استيقظ إثرَ نبضة قوية أحسّ بها متجهة بسرعة من قلبه نحو حلقه، إذًا لم أمت بعد! فكّرَ وهو يحاول أن يرفع الغطاء عن رأسه ليتأكد أنه لايزال في غرفته. العرق يتصبّبُ، لم تتغير حرارة التدفئة لكن كل شيء كان رطبًا، ثيابه والسرير وشعر رأسه وحتى جفنيه! تحرّك ببطئ لينظر إلى ساعة المنبه، “هل مرَّ كلّ هذا الوقت وأنا نائم!”، فكّر.

وضع ركوة القهوة على النار، فنجان من القهوة العربية كفيل بأن يعيد له تركيزه. كلُّ جزء في جسده يؤلمه، حتى جذور شعره تؤلمه، وهذا الثقل الجاثم على صدره.

 يفكر، ما عساه يفعل الآن!

“تفضّل…”

“طلبتَ رؤيتي”

“نعم، أكيد تفضّل… رجاءً أغلق الباب خلفك”

“جلبتُ تقارير العمل معي، في حال أردت مناقشتها”

“اجلس اجلس… لا أريد التقارير”

بدا وجه المدير أكثر جدية من المعتاد، كان يحاول تجنب النظر إلى عينيه وانشغل بترتيب بعض الأوراق الغير مهمة كما يبدو!

“أنتَ تعلم أن الوقت قد حان …”

بدأ الماء يغلي، لا يزال ينظر نحو ركوة القهوة وعقله يسرح في مكان آخر! سحبته قطرة صغيرة قفزت من الركوة لتستقر على يده الممسكة بيد الركوة، لتعيده إلى الواقع بلسعة حارّة. أضاف البن وانتظر ليغلي جيدًا مع الماء. اختلطت رائحة القهوة مع الأوكسجين لتغير هواء المنزل، أخذ نفسًا عميقًا ليملئ رئتيه من تلك النشوة المثيرة التي لطالما ساهمت في تعديل مزاجه. 

“هل كان عليها أن ترحل أيضًا!”، فكّرَ وهو يسكب القهوة في فنجانه.

“لم يحنِ الموعد بعد…”

“أعلم، لكن البديل قد أتى وهو جاهز ليبدأ على الفور”

“لكنني لست جاهزًا ليبدأ هو على الفور!”

“القرار قد أتخذ، لن تغير بضعة أشهر في شيء… في النهاية سنصل للنتيجة ذاتها!”

لم تلتقي العيون أبدًا خلال حديثهما المتوتر، فقط يراقب حركات جسد المدير الذي يصغره بالعمر كثيرًا ويكبره في المنصب أكثر!

لامست شفتاه حافة الفنجان ليرتشف ذلك الكافيين الذي سيعيد له إحساسه بالزمن. هل كان عليه أن يقلب الدنيا رأسًا على عقب! في النهاية القرار لم يكن قراره، ولا قرار مديره وقد كان محقًا في قوله أن بضعة أشهر لن تغير شيء. لكن هذا ممكنًا لو أنها لا تزال هنا! كان ممكنًا أن تكون الحياة أجمل والقهوة أطيب والبيت أدفئ، فقط لو…!

يحتسي المزيد من القهوة 

“أنا أرفض هذا الكلام التافه..”

“أعتقد أنه لا مجال للرفض، لقد خرج الموضوع من يدي”

“أنت لا تعي ما تقول لأنك لا تزال ولدًا”

“لا تجعل الموضوع أصعب علينا، ولا تثير غضبي وإلا…”

كلّ ما يذكره هو وجه المدير الذي تلون ببعض الدماء السائلة من أنفه، ورجال الأمن يحملونه إلى خارج المبنى رقم 155! 

هل لكمه؟ لا يذكر، لكنه يذكر إحساسه في اللحظة التي أتت مباشرة بعد تهديد المدير الشاب الضمني له! تلك الكلمات كانت كافية لأن تطلق بحر من الإدرينالين الغاضب، ليصل في لحظات إلى قبضة يده التي انطلقت دون وعي باتجاه المدير.

يترك العنان لجسده حتى يرتاح على الأريكة كيفما اتفق، ويسرح بعيدًا

من هذا الذي يحدد عمرًا للتقاعد، هو لا يزال بكامل صحته البدنية والعقلية. هو قادرٌ تماما على إكمال العمل والإنتاج، لكن القانون يمنعه من ذلك! وكأن الكون أجمع قد قرّر أنه دخل في مرحلة الشيخوخة المبكرة، والآن عليه أن يُكمل حياته قابعًا في كرسيٍّ هزاز، ينتظر أن تتكرم عليه الحياة بزائر الليل أو النهار!

مرَّ شهر، يستيقظ متكاسلًا بلا هدف وبلا عنوان واضح لأيام تبدو متشابهة لدرجة مقرفة! لم يكن يومًا من المنهزمين أمام الحياة، لكن يبدو أن من يشاطروه هذه الحياة وضعوا حجر أساس أول إنهزام له!

“ما بكَ! هل تركت الفراغ يملئ خلايا عقلك!”

جاءه وجهها الملائكي في حلم بعد غياب طويل، كان قد بدأ يفقد الأمل في زيارة لها، بعد أن بدأت أحلامه تتضائل مع الأرق الذي أصابه منذ أن أحيل على التقاعد! جاءت زوجته بابتسامتها التّي لطالما بعثت فيه رعشة الحياة. أراد أن يمسك بها، أن يصرخ ويخبرها بأنه فعليًا قد بدأ بالسقوط منذ رحلت! حاول اللحاق بها، لكن يبدو أن الوقت لم يحن بعد. 

اليوم لم يكن كسائر الأيام، استيقظ باكرًا، حلق ذقنه ولبس بدلته المفضلة وشرب قهوته الصباحية قبل أن يخرج في رحلته الصباحية.

ملاحظة: في كلّ مرّة تمرّ بها على مكتبة المدينة الرسمية، ستجده يستقبلك بابتسامته الجديدة وبيده كتاب، وهو يسأل: أية خدمة؟!

1 view0 comments

Recent Posts

See All
bottom of page